سلسلة القطر الندي من أدعية النبي ﷺ (2)
لتحميل الملف صوتي:
لتحميل تفريغ الملف:
الدعاء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
ثم أما بعد:
فكما تعودنا في كل جمعةٍ أن نطيف القلب حول معاني شيءٍ من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وها نحن في الحلقة الثانية من
(بالقطر الندي من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم ).
(اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)
وهذا الدعاء مما أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحهما
سبب الحديث ومدخله الإجمالي:
أن أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته فذكر له عليه الصلاة والسلام هذا الدعاء إلى آخره
فقبل البدء والشروع والازدلاف في معانيه وحول تفصيلاته نقول:
أولاً: السائل هو أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه وهو أحب الناس إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعطيه من أجمل الأدعية وأعلاها وأسماها.
ثانياً: أن أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه شيخٌ و إمامٌ محسنٌ لا يضاهي أحدٌ بإيمانه ولا كثرة تعبده من هذه الأمة ، ومع ذلك عُلم دعاءً عن كثرة الذنوب والاستغفار ، فمن كان دون أبي بكرٍ كأمثالنا من باب أولى.
ثالثاً: أن هذا الدعاء قال فيه: "علمني دعاءً أدعو به في صلاتي" وهذا مما ذكر أهل العلم أنه يقال قبل السلام في الصلاة، والصلاة من أرجى أوقات استجابة الدعاء، لأن الإنسان ماثلٌ بين يدي ربه خاشعاً خاضعاً متذللا لربه، يسأله ويطلبه العون والمغفرة والتوفيق والسداد.
قال في هذا الحديث:
(اللهم): هذا فيه تقديم الألوهية، والألوهية تقتضي أن الإنسان لا يتأله إلا الله لا يعبد إلا الله ولا يطلب إلا الله ولا يستغيث إلا بالله، (اللهم) ففيه شبهٌ بالسؤال بالتوحيد.
(إني ظلمت نفسي): هنا قدم الاعتذار قبل الطلب.
والظلم في اللغة هن ووضع الشيء في غير موضعه، وكل شيءٍ وضع في غير موضعه فهو ظلمٌ، وأعلى مراتب الظلم هو الشرك ولذلك قال: (إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ ١٣) ويندرج تحت ظلم النفس الذنوب الكبيرة والصغيرة.
(ظلماً كثيراً) : قال ( ظلماً كثيراً ) أكده بالمصدر ثم وصفه بالزيادة ، كل هذا إمعانٌ في التذلل والخضوع لله.
فوائد:
1. تعليم للداعي أنه ينبغي له في حال دعائه أن يظهر غاية التذلل والخضوع لربه ، فإن ذلك أقرب للإجابة وأكثر جواباً وثواباً وجزاءً.
2. وفيه دليلٌ على أن الواجب على العبد أن يكون حذرًا من ربه في كل أحواله حتى وإن كان من أهل الاجتهاد في العبادة وبلوغ أقصى مراتبها، لأن أبا بكر هو الصديق وموضعه في الديانة والأمانة معروفٌ ولم يسلم من الحاجة إلى الاستغفار إلى ربه تعالى فغيره من باب أولى.
(اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) قد يقول إنسان: "طيب أنا لا ألاحظ على نفسي تقصيراً وأنا آتي بالصلوات على وقتها وكذا وكذا." وإن كان كذلك، فأنت ظلمت نفسك ظلماً كثيراً إذ لا أحد يسلم من الغفلة، ضع نعمة العين على الميزان وقارنها بشكرك وعباداتك، لن توفيها قدرها ولو فعلت ما فعلت من الطاعات والعبادات والتقرب إلى الله ، وضع معها نعمة السمع والنظر ونعمة العينين ونعمة القدمين ونعمة دفع النقم عنك ونعمة جلب النفع إليك. كل هذه النعم لا تستطيع أن تحيط بها شكراً لله ، فأنت مقصرٌ مهما لاح لك أنك قد بلغت من العبادة أعلى مراتبها وأسناها وأكملها.
فالإنسان لا يزال في التقصير إما في خلاف الأولى وإما بالغفلة وإما بكذا وإما بالذنوب، والذنوب لا يسلم منها أحد من البشر.
(ولا يغفر الذنوب إلا أنت): أي لا أحد يقدر على ستر الذنب.
الغفر في اللغة: الستر، ولذلك سمي المغفر -الذي يلبسه المحارب على رأسه ليتقي به الضربات – مغفرا، لأنه يستر رأسه. فيا رب لا يغفر الذنوب إلا أنت.. لا يستر هذه الذنوب ولا يتجاوزها عني أحدٌ إلا أنت وحدك.
3.ففيه إقرارٌ بالوحدانية لله تعالى واستجلاب المغفرة بالتوحيد وهذا الذي ندندن دائماً حوله
(فاغفر لي مغفرةً من عندك): أي لا أطلبها إلا من عندك يا رب العالمين إذ لا أحد يستطيع ذلك إلا أنت يارب.
(وارحمني): ارحمني رحمةً تسترني.. رحمةً تجللني بفضلك وعفوك وسترك وغفرانك وكل أنواع الخير.. يا رب فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني.
(إنك أنت): لم يقل إنك الغفور الرحيم، (إنك أنت) زيادة في الإيمان واليقين، والإيمان الكامل أن الله هو وحده الذي يغفر.
(إنك أنت الغفور): غفور على وزن فعول، يعني كثير الغفر يا رب، كم أقترف من الذنوب وأنت تسترها علي. كم اقترفنا من التقصيرات ولا زلت تجللنا بسترك.. وكم فعلنا وكم وكم.. كلنا بينه وبين الله له جرائم لا يعلمها إلا الله من الصغائر أو الكبائر، لكن مع ذلك لا يزال الله يغفرها ويسترها لا يفضح الإنسان عند الناس وكذا وكذا.
(إنك أنت الغفور الرحيم): رحيم على وزن فعيل، كثير الرحمة، تستر الذنب وتقبل التوبة عن عبادك وتجازي الحسنة بأضعاف وأمثالها وتكتب السيئة واحدة، وإذا تاب الإنسان فإنك تبدل سيئاته إلى حسنات، فإنك ربٌ رؤوفٌ جوادٌ رحيمٌ، وأرجى ما يكون الدعاء إجابةً إذا قُرن بمثل هذه البدائع من الاعتذار والإقرار والتوحيد لله ، عندها يكون هذا الدعاء محل إجابةٍ ورجاءٍ لله ، فهذا فيه لجوء إلى الله وطلب المغفرة والرحمة بأن يغفر الله للإنسان ذنوبه ويسترها عليهم.
الدعاء اشتمل على نوعين مهمين من أنواع التوسل لله :
1. التوسل بالافتقار إلى الله، وذلك بالاعتراف بظلم النفس وتقصيرها وضعفها وهو من التوسل الذي ذكرنا معناه.
2. أنه توسل إلى الله بأسمائه الحسنى (الغفور الرحيم).
وهذا الدعاء -كما قال الكرماني -: هذا الدعاء من الجوامع، لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير وطلب غاية الإنعام، فالمغفرة ستر الذنوب ومحوها، والرحمة إيصال الخيرات، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار، وفي الثاني طلب إدخال الجنة، وهذا هو الفوز العظيم.
وأكثروا من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم جمعتكم.
ومن فاته رؤيا النبي فما له كأخباره سلوى عن الفوت الأفظع
وأيضا أكثروا من الدعاء لأنفسكم وأهليكم ومجتمعاتكم وأهل الإسلام أجمع بأن يجذب الله الأمن على بلاد المسلمين جميعاً وأن يوسع أرزاقهم ويبارك فيهم ويجمع قلوبهم على الكتاب والسنة بفضله وجلاله يا ذا الجلال والفضل والمنة.
وصل إلهي كلما ذر شارقٌ على خاتم الرسل الكرام الأطايب
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.